المحتوى الرئيسى

دونالد غلوفر: هذه هي أميركا

11/18 14:06

مثّل انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، نقطة تحوّل مفصلية في مسار التاريخ المعاصر. فقد حمل في طياته، من جهة، معالم مشهد سياسي جديد، ليس على صعيد الداخل الأميركي وحسب، بل امتد نحو الخارج الدولي أيضاً، بحكم قوّة أميركا التي جعلت منها، لعقود، القطب الأوحد في السياسة والاقتصاد والثقافة. والقائد المتفرّد للنظام العالمي في حقبة ما بعد الحرب الباردة.

هذا في الإطار العام. أما على الصعيد الاجتماعي الخاص بالداخل الأميركي، فقد أدى عهد ترامب إلى تفجُّر ديناميّات اجتماعية وفنّية، رياضية وثقافية، لم تعهدها الولايات المتحدة منذ ستينيّات القرن الماضي، إبان الحراك الطلابي المناوئ للتمييز العنصري والمناهض للحرب في فيتنام.

تمكن عنونة الديناميات تلك تحت عنوان "عودة المجتمع إلى السياسة" وفي سياق هذا المقال، عودة الأغنية السياسية تحديداً. وهنا، أغنية "هذه هي أميركا" نموذجاً. الأغنية من أداء الشاب، متعدد المواهب، دونالد غلوفر، الملقّب بـ"تشايلدش غامبينو"Childish Gambino.

يسعى الفنان إلى الاتصال المباشر بالناس عبر وسيط يحرّره من سطوة الإمبراطوريات الإنتاجية الكبرى

أنتج الفيديو كليبب بالتعاون مع صديقه المخرج هيرو موراي. وصدر في شهر مايو/أيار من العام الحالي. يُصرّ غلوفر، بذكاء، ومن خلال عديد الأسئلة التي وُجّهت إليه بخصوص أغنيته، على عدم تضمينها رموزاً سياسية، وترك دلالتها مفتوحة. يصب ذلك في عمق الفلسفة الأميركية، منذ الحرب الباردة، والتي تعتبر الفن، ظاهرياً على الأقل، مجال ترفيه، مقابل فلسفة اشتراكية تبناها الاتحاد السوفييتي ومعسكره الشرقي، كانت ترى للفن وظيفة أيديولوجية.

بيد أن مضامين الرسالة السياسية في عمل غلوفر واضحة وجلية. بدايةً بأسلوب النشر، إذ اعتمد على اليوتيوب دون غيره من أقنية التسويق التقليدية. بهذا، يسعى الفنان إلى الاتصال المباشر بالناس عبر وسيط ليبرالي، يحرّره من سطوة الإمبراطوريات الإنتاجية الكبرى في كاليفورنيا ونيويورك.

هكذا، أحدث الڤيديو أثراً فيروسياً أكسبه، حتى اللحظة، ما يقارب النصف مليار مشاهدة، وارتدادات خارج الولايات المتحدة، تمثّلت باستنساخ العمل في بلدان عدة، وبلغات مختلفة.

للأغنية قالب رباعي متناظر، يقوم على التناقض، وفي الوقت ذاته، يُشير إليه. القسم الأول يأتي على شكل مقدمة تُستهل بغناء تهليلي مرح، لكورس يؤدي تراتيل على نمط الإنشاد الكنسي الأفرو- أميركي، يلتحم بعزف غيتار على الطراز الكوبي. في عرض لألوان الطيف العرقي في المجتمع الأميركي.

تبدأ كاميرا مُنفردة التحرك بأسلوب اللقطة الطويلة، لتلتقط غلوفر وهو يؤدي رقصة تعبيرية فريدة، تكاد تشمل كل أعضاء الجسد بما فيها العيون. الصدر عار وسلسلة ثخينة حول العنق، في كليهما إشارة إلى إرث العبودية.

دوي رصاصة أطلقها غلوفر في مشهد إعدام رهيب، كقرع طبل، لتصدم المشاهد، وستنقل الأغنية إلى القسم الثاني الذي يُقدّم بأسلوب غناء الهيب هوب Hip Hop؛ أي نْظم من دون لحن على إيقاع ثابت. وهو شكل فني أبدعه السود وحمّلوه همومهم، هم وغيرهم من الفئات المهمشة في المجتمع.

يتّبع غلوفر أسلوباً مينيمالياً Minimalism (ما قلّ ودلّ)، حيث الجمل مقتضبة، متكررة تتخللها فواصل ساكنة. أما الخلفية الموسيقية، فهي إلكترونية تعتمد تبايناً بين قاع Bass يُسمع كحقل مغناطيسي داكن، ومدى مرتفع يُوحي ببوق إنذار. هذا بالتوازي مع خلفية بصرية تصّور فوضى وهلعًا، بينما يتابع غلوفر الرقص والغناء، في تشديد درامي على تناقض الحياة الأميركية وتأرجحها، كما الأغنية، ما بين الهول والحلم.

القسم الثالث، عود على بدء. فيما تنعطف الكاميرا ببراعة، مباغتةً سير الموسيقى، نحو مشهد يدخل فيه غلوفر على كورس يرنّم مهلّلاً في مكان يوحي بكنيسة. يمرّ بالكورس راقصاً في تنويع لافت، على ما بات يعرف برقصة "المشي على سطح القمر" للراحل مايكل جاكسون. مرّة أخرى، وبأسلوب الصدمة، يلتقط غلوفر من خارج إطار الصورة بندقية آلية، يطلق النار على جمع المرتلين، ليبدأ القسم الرابع.

يوحي الفنان إلى ثقافة تسليع التسلّح في المجتمع الأميركي

مجدداً وببناء درامي محكم، يؤدي صوت إطلاق النار فيه دور القنطرة، أو التسليم، الذي عادة ما يُسند إلى عازف الطبول في موسيقى الروك. هنا، يوحي الفنان، كما في القنطرة الأولى، إلى ثقافة تسليع التسلّح في المجتمع الأميركي، والتي تستند إلى المادة الثانية من دستور الولايات المتحدة، الكافلة حرّية حيازة الأسلحة لجميع المواطنين. كما يعود مشهد إطلاق النار على المرتّلين السود، بنا إلى حادثة اقتحام كنسية للأفرو - أميركيين في تشارلستون عام 2015، من قبل عنصري أبيض، أدت إلى مقتل تسعة مصلّين.

Comments

عاجل